خطبة الجمعة عن التقوى – للشيخ : أحمد (فريد)
التقوى منة من الله على عباده، وهي سمو في التدين يتضمن طاعة الله عز وجل ومراقبته سراً وجهراً، ولشرف التقوى وفضلها شرف الله أهلها في الدنيا والآخرة، وآتاهم ثمرة عملهم طيبة في الدارين، كرماً منه وجوداً على عباده جزاء ما قدموا.
أهمية التقوى والوصية بها الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بأجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته ، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما : الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير سبح في في الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة النار، وما قل وكفى خير مما كثر وأَلهِي إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَاتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:١٣٤]. أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، واغتر الناس بظاهر الدنيا وزينتها، وغفلوا عن شرف التقوى ونعيمها في الدنيا والآخرة، وهذا من الجهل البليغ والغفلة الشنيعة، فإن أهل التقوى هم ملوك الدنيا، كما أنهم ملوك الآخرة. والتقوى: أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله عز وجل ومن عذاب الله، وتضاف التقوى أحياناً إلى الله عز وجل ثم تضاف أحياناً إلى يوم القيامة: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: ۲۸۱] وتضاف التقوى أحياناً إلى عذاب النار، كما قال عز وجل: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: ۱۳۱] فإذا أمر الله عز وجل عباده بتقواه فإنه يأمرهم حينئذ بأن يأخذوا الوقاية من التعرض لسخطه وعذابه وشديد عقابه وأمر الله عز وجل بتقواه يوم القيامة لأن يوم القيامة هو يوم العذاب، وهو الوقت الذي حدده الله عز وجل للحساب، وإذا أتت الآيات بالأمر بتقوى النار، فالنار هي مكان العذاب الأكبر ، فنسأل الله عز وجل أن يقينا شر أعمالنا، وأن يقينا من عذاب النار.
أعلى درجة في الدين درجة التقوى إن شجرة التقوى عباد الله أطيب من شجرة الإيمان، وإن شئت قلت: شجرة التقوى عباد الله! هي أطيب شجرة من شجرات الإيمان؛ لأن التقوى منزلة أعلى من منزلة الإيمان مع أن منزلة الإيمان منزلة عالية، فقد زعمت أعراب بني أسد الإيمان، ونفى الله عز وجل هذه المنزلة الشريفة والدرجة المنيفة عنهم ، فقال عز وجل: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤] ولكن منزلة التقوى أشرف من درجة الإيمان، سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث جبريل عن الإسلام فقال: (أن) تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الإسلام هو استسلام الظاهر لله عز وجل، وهو شهادة الحق، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت، ثم سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . فهذه الدرجة الثانية عباد الله، فمن عبد الله عز وجل بدرجة الإسلام واستسلم ظاهره لله عز وجل، فهو أمن من الخلود في النار ، ولكنه لا يأمن من دخول النار بالكلية. ومن عبد الله عز وجل بدرجة الإيمان فإنه آمن من عذاب النار، وإنه يدخل الجنة من أول وهلة؛ لأن الله عز وجل وعد المؤمنين أجراً عظيماً وقال عز وجل: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: ١٤٦]. وبشر الله المؤمنين بالفضل الكبير، فقال عز وجل: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضلًا كَبِيرًا) [الأحزاب: ٤٧]. أما الدرجة العالية فهي درجة الإحسان وهي درجة التقوى، (سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه هي درجة التقوى: أن يحسن العبد إيمانه وعبادته لله عز وجل، فكأنه يرى الله عز وجل وهو يعبده، ولا شك أن العبد إذا كان يعتقد أنه يرى الله عز وجل ويحس بأنه يراه، لا شك أنه يأتي بالعبادة على وجهها. ولما كان هؤلاء يعبدون الله عز وجل على المشاهدة والحضور، كأنهم يرون الله عز وجل وهم يعبدونه كان جزاؤهم في الآخرة الحسنى وزيادة، والحسنى هيا الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل، فلهم أوفر نصيب من أعظم نعيم أهل الجنة فلهم الجنة وزيادة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل الكريم.
# ثمرات التقوى في الدنيا :
فدرجة التقوى عباد الله درجة عالية، وشجرتها من أطيب شجرات الإيمان، فهي لا تثمر ثمرات في الدنيا وحدها، ولكنها تثمر ثمرات طيبة يانعة في الدنيا والآخرة، فيجني العبد المتقي من ثمرات التقوى في الدنيا قبل الآخرة، ويتمتع بنعيم التقوى في الدنيا قبل الآخرة فمن ثمرات شجرة التقوى في الدنيا: أن الله عز وجل يجعل للعبد من كل ضيق فرجاً، ويرزقه من حيث لا يدري ولا يحتسب، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ۲-۳].
# من ثمرات التقوى :
أن الله يجعل للعبد من أمره يسراً، وييسر للعبد جميع أموره، فمهما قصد أمراً من الأمور أو مصلحة من المصالح يسرت له، كما قال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: ٤] من ثمرات التقوى في الدنيا كذلك أن التقوى هي التأمين الرباني الحلال الذي جعله الله عز وجل لعباده المتقين، ليس بالمتاجرة بعقول الناس وأموالهم، وبمص دماء الناس بدعوى التأمين على الحياة، فالتأمين ربا وقمار، أما التقوى فتأمين رباني شرعه الله عز وجل لمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته في الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء: 9]. فمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته، وأن يبارك له في ذريته فعليه بتقوى الله عز وجل. كان سعيد بن المسيب يقول لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا قوله عز وجل: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف: ۸۲] فانظروا إلى صلاح الآباء وتقواهم كيف يكون سبباً في حفظ الأبناء. التقوى كذلك عباد الله سبب لبركات السماء والأرض. وانظروا عباد الله كيف يعيش الناس حياة الضنك والضيق، والفقر والشقاء والنقص في كل شيء؛ لأنهم ضيعوا تقوى الله عز وجل والله عز وجل يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦]. وقال عز وجل: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: ١٦] . أهل التقوى عباد الله لهم من الهيبة والشرف والوقار في قلوب الخلق ما يفوق شرف أهل السلطان، كما قال بعض الناس قتلني حب الشرف – أي: حب الرفعة في الدنيا – فقال له أحد العلماء لو اتقيت الله شرفت. وفي ذلك قيل: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقموليس على عبدٍ تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجمو انظروا عباد الله إلى العلماء الأعلام، والأئمة الكرام كيف كان لهم من الهيبة والوقار حتى كانت الملوك تهابهم، فهذا الإمام مالك كان تهابه الملوك، وكان الأمراء يجلسون في مجلسه أذلاء، لا يكلم أحد أحداً، وكان يسأل فيقول: نعم أو لا، ولا يقال له: من أين قلت هذا، وما دليلك على ذاك؟ بل مدحه أحدهم فقال : يدع الجواب ولا يراجع هيبة و السائلون نواكس الأذقانِ نور الوقار وعز سلطان التقفهو المهيب وليس ذا سلطان التقوى عباد الله سبب للحفظ من كيد الأعداء، كما قال عز وجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: ۱۲۰] . التقوى كذلك عباد الله الذرة منها خير من أمثال الجبال عبادة من المغترين، كما قال أبو الدرداء : يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين. فمن بلغ درجة التقوى عباد الله! فالذرة الواحدة من أعماله أفضل أمثال الجبال عبادة من المغترين، وهذا الكلام كما قال ابن القيم رحمه الله من جواهر الكلام الذي يكتب بالذهب والفضة؛ وذلك لأن الأعمال تتفاضل بمقدار ما في قلوب أصحابها من تقوى الله عز وجل، فالرجلان يكونان في صف واحد، وخلف إمام واحد يكبران بتكبيره، ويسلمان بتسليمه، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؛ لأن الأعمال تتفاضل بمقدار ما في قلوب أصحابها من تقوى لله عز وجل. وقال بعضهم كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا قام وقلبه كان فاجراً، وهذا نام وقلبه كان عامراً. أي أن العبد قد يقوم الليل وقلبه يفور بالشهوات، وهو معجب بنفسه، ويمن بعمله على الله عز وجل وعلى عباده، فمن أصبح نائماً و وهو نادم خير ممن أصبح قائماً، ثم أصبح يمن على الله عز وجل، فكم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم فالعبد المؤمن المتقي إذا نام فإنه ينام على ذكر الله وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن، ويستقبل بوجهه القبلة، ويذكر أذكار النوم، وينام على نية صالحة؛ كما قال معاذ إني لا احتسب نومتي كما أحتسب قومتي. فهذا نومه من عباد الله أفضل من قيام من يفور قلبه ويفور قلبه للشهوات التقوى كذلك عباد الله: هي سبب للنجاة. عذاب الدنيا، كما قال عز وجل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت: ۱۷-۱۸] . التقوى كذلك هي سبب البشرى في الدنيا والآخرة كما قال عز وجل: ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: ٦٢-٦٤] . وجاءت البشرى بمعنى الرؤية الصالحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قيل وما المبشرات يا رسول الله؟! قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) . ومن المبشرات كذلك ثناء الخلق ومحبتهم، فقد قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الرجل) يعمل العمل لا يرجو به إلا وجه الله، فيحبه الناس)، وفي رواية: (فيثني عليه الناس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم تلك عاجل بشرى المؤمن). أي: من عاجل بشرى المؤمن محبة الخلق وثناؤهم، وأهل التقوى لهم أوفر نصيب من محبة الخلق وثنائهم، فنسأل الله عز وجل أن يشرفنا بالتقوى في الدنيا والآخرة.